هل المنطق الصوري يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ؟ حيث اثار هذا السؤال فضول الكثير من السائلين لصعوبة التعرف على اجابة هذا السؤال ,لذلك فإننا سنكون اول من يستعرض لكم الاجابة النموذجية له في مقالنا الأن.
هل المنطق الصوري يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ؟
المحتويات
هل مراعاة قواعد المنطق الصوري تعصم الذهن من الوقوع في الخطأ في التفكير؟
المقدمة: يتميز الإنسان بميزة جوهرية وهي العقل، وهو قاسم مشترك بين جميع الناس، فهو ملكة ذهنية لا تتحرك حسب الأهواء والمصادفات، فمنذ بدأ الإنسان بالتساؤل عن الوجود ومظاهره كان يفكر، بمعنى أنه يستدل ويحكم دون معرفة منه لما يطلق عليه مسمى علم المنطق، أو حتى ينتبه إلى موضوعه تماما كما كان يتكلم دون أن يعلم شيئا عن علوم اللغة من نحو وصرف، وتطلق كلمة المنطق في اللغة ويراد بها أحد معنيين: نطق خارجي ويقصد به الكلام، ونطق داخلي ويراد به العقل والبرهان. ولقد احتدم الجدال والنقاش في الأوساط الفكرية والفلسفية حول أهمية وقيمة المنطق وعلاقته بالتفكير السليم، وانقسموا بذلك إلى اتجاهين: الأول يرى أنصاره أن المنطق الصوري هو العلم الذي يبحث في المبادئ والأسس العامة للتفكير المجرد، وفي القواعد الضرورية التي يسير عليها الفكر حتى يميز بين الخطأ والصواب في جميع الموضوعات دون تمييز، وكأنه آلة تضمن صحة التفكير، بينما يرى أنصار الاتجاه الثاني أنه منطق شكلي قاصر لا يضمن صحة التفكير وسلامته وبالتالي يمكن الاستغناء عنه. من هنا ولرفع التعارض والجدال بين الموقفين حق لنا أن نتساءل: هل التعرف على قواعد علم المنطق الصوري ومراعاتها يضمن صحة التفكير؟ وبعبارة أخرى: هل يمكن اعتبار المنطق الصوري أداة فعالة للتفكير لا يمكن الاستغناء عنها؟ أم أن المنطق مجرد تفكير نظري صوري يقوم على قواعد ثابتة لا تواكب تغيرات الواقع وبالتالي يمكن الاستغناء عنه؟
هل المنطق الصوري يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ؟
المعروف أن المنطق الصوري هو العلم الذي يتناول مجموع الشروط والقواعد الفكرية التي يقوم عليها التفكير السليم ويعد “أرسطو” مؤسس هذا المنطق بنظرية محددة القواعد تعمل على عصمة الذهن من الوقوع في الخطأ وتبعده عن التناقض مع نفسه، لهذا اعتبره “آلة العلم وصورته”، وهو بهذا يكشف لنا أن المنطق فن وصناعة تحدد صورة التفكير الصحيح وقواعده، وتعلمنا كيف نفكر وفق وحدات وشروط إذا التزم بها الفكر وطبقها عصمته من الخطأ. والدليل على ذلك: أن ملاحظة جميع وحدات المنطق الصوري (التصورات والحدود، التعاريف، الأحكام والقضايا، الاستدلالات) نجدها تؤسس لدقة علمية وبناء فكري محكم وفحص مضبوط للمقدمات وفق قواعد كلية يسلم بها العقل تلقائيا بغض النظر عن مضمون المعرفة وموضوعاتها، ومن هنا يكون في وسع الفكر القدرة على كشف الأخطاء والأغاليط، والابتعاد عن التناقض، وتحقيق انسجام الفكر مع نفسه. لهذا اعتبره “الفارابي”: “صناعة تعطي بالجملة القوانين التي شأنها أن تقوم العقل وتسدد الإنسان نحو طريق الصواب و نحو الحق”، وبناء على هذا تظهر قيمة المنطق وقدرة قواعده على تحقيق انطباق الفكر مع نفسه وضمان صحة التفكير و تجاوز الأخطاء.
هل المنطق الصوري يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ؟
لكن ورغم ما قدمه أنصار المنطق الصوري من أدلة وحجج إلا أن موقفهم فيه الكثير من المبالغة لأن المنطق الصوري ناقص ولا يعبر عن حقيقة الفكر من جميع جوانبه، فهو منطق اهتم بصورة الفكر وأهمل مادته مما ولد محدودية تطبيقاته.
من هنا ظهر خصوم للمنطق الصوري وعلى رأسهم “ديكارت” و “فرنسيس بيكون” من العصر الحديث، وقبلهم “ابن تيمية” وغيره من مفكري الإسلام، حيث يتفقون على أن المنطق الصوري بقواعده لا يضمن صحة التفكير ولا يعصم الذهن من الوقوع في الخطأ، وقد اعتمد خصوم المنطق الصوري على العديد من الأدلة أهمها: أن قواعده ثابتة لا تقبل التطور، كما انه منطق ضيق لا يعبر إلا عن بعض العلاقات المنطقية، ولا يتجاوز في أبلغ صوره علاقة التعدي، رغم أن العلاقات كثيرة والواقع الرياضي يشهد على ذلك، من ناحية أخرى فهو منطق لا يخرج عن دائرة الفكر وانطباقه مع نفسه ويغفل تماما عن الواقع وموضوعاته، ومن ثمة الوقوع في الأخطاء، وعدم ضمان اتفاق جميع العقول، أي أنه لا يساير الواقع وأحداثه المتغيرة، ولهذا هاجمه الكثير من الفلاسفة والمفكرين المحدثين، واجتهدوا في إبداع صور وأساليب منطقية جديدة تتناسب مع ظروف المعرفة والثقافة، ومن هنا ظهرت بدائل منطقية جديدة تبحث عن صحة التفكير وكيفية الابتعاد عن الأخطاء، كالمنطق الرمزي، والمنطق الجدلي، والمنطق الاستقرائي وغيرها من البدائل المنطقية مما يعني أن المنطق الصوري لا يضمن صحة وسلامة التفكير.
غير أن هذا الاتجاه الذي يرفض المنطق الصوري ويجتهد في إبراز محدوديته، فإن أصحابه يتغافلون عن حقيقة تاريخية هي أن المنطق كان المنطلق لتأسيس الدراسة النظرية لعمل الفكر وفهم أحكامه كنظرية. من ناحية أخرى القول بمحدودية المنطق الصوري ونقصه لا يعني بالضرورة أنه خاطئ ويجب الاستغناء عنه، لأنه في كل الأحوال يعتبر بعدا إبداعيا لفهم عمل الفكر وإظهار كيفية انطباقه مع نفسه. وهذا يؤكد دوره وفعاليته في الكثير من مجالات المعرفة الإنسانية كالرياضيات والفلسفة والأخلاق. وهذا ما يعني تعديله وتطويره وليس رفضه.
إن المنطق الصوري والالتزام بقواعده مهما كان دوره وأهميته في وضع مبادئ التفكير المنطقي وإبعاد التفكير عن الأخطاء والتناقضات وضمان سلامته، لكنه من ناحية أخرى يعتبر ناقص ويحتاج إلى نماذج منطقية أخرى لتكمل نقصه وتتناول مختلف الجوانب والموضوعات التي غفل عنها المنطق الصوري كانطباق الفكر مع الواقع، والاستدلال الرمزي، وغيرها من الأساليب المنطقية التي تخدم فكر الإنسان وتساير تطور معارفه (عقلية، مادية، وجدانية…).